لقد كانت زيارتي لمصر في صيف 2008 فرصة لإمعان النظر في التطورات التي حدثت للمجتمع المصري، فلقد مكثت قرابة الشهر متنقلا ما بين مدنها، وهي أطول فترة أقضيها في مصر منذ مغادرتي لها عام 1982.
ومنذ وطأنا مطار القاهرة ومررنا أسفل لافتة علوية مكتوب عليها
الآية الكريمة "ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين" – يوسف / 99، وأنا في حيرة من أمري، فالزحام شديد ودرجة الحرارة لا تطاق والضباط المسئولين عن ختم جوازات السفر يعملون بكفاءة متدنية وعندما جاء دوري في ختم جواز السفر وبدلا من أن يسألني الضابط عن أمور جوهرية، سألني "أنت ما كنتش واقف في الطابور ده؟" فأجبته نعم، فلقد كانت ابنتي هي المصطفة في الطابور وعندما جاء دورها وقفت بدلا عنها فنحن عائلة كبيرة وبالطبع لن نقف جميعاً، ولم يلق ردي عليه استحساناً، فسمح لزوجتي وأولادي بالمرور واستبقاني مع الخادمة، متعلالاً بأنه سيراجع مدرائه بشأن أحقية اصطحابي للخادمة، وهكذا أبقاني واقفاً إلى أن أصبحت الشخص قبل الأخير في صالة الوصول الذي سُمح له بالدخول (آمنين) حيث كان الأخير فرنسي الجنسية، وأضاعوا جواز سفره.
مصر التي ولدت وترعرعت فيها لم تكن هكذا فقد حدث خلال العقود الخمس الماضية تحولات عميقة الأثر في تركيب المجتمع من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، صاحبتها لا مبالاة غريبة في شتى المجالات، وتدهور غير مسبوق في الخدمات ويمكن أن نلاحظ أن الحراك الاجتماعي وتبادل شرائح بعض الطبقات مراكزها السياسية والاجتماعية مسئول عن الكثير من الأمراض التي يعانيها المجتمع المصري، فصعود طبقات من الدرجات الدنيا في السلم الاجتماعي إلى الطبقات المتوسطة وبعضها نفذ إلى طبقة النخبة، بحكم قربه من السلطة أو من خلال التعليم المجاني الذي أتيح له سابقاً، في ذات الوقت الذي انحدرت فيه شرائح كانت في قمة الهرم الاقتصادي والاجتماعي إلى الطبقات الدنيا وباتت تبحث عن لقمة العيش.
وفي مراحل الحراك الاجتماعي العنيف والصعود والهبوط الطبقي غير المُنظم والتي تلعب فيه اليد الخفية الدور الأساس يشيع في المجتمع ثقافة الاستهلاك بسبب الرغبة في التقليد والتعويض عن الإحساس بالنقص، فالسيارات الفارهة والقصور والفلل المترفة في الساحل الشمالي والتي لا تستخدم سوى أشهر الصيف لا يوازيها أنشطة إنتاجية أو صناعية، بل إن الحرفيين تتدهور مهاراتهم ويزجون بأولادهم إلى معاهد تعليمية لا تتناسب مخرجاتها مع احتياجات المجتمع، فينتهي الأمر بهم إلى أعمال هامشية لا تخدم التنمية الحقيقية في المجتمع.
وتتميز فترات الحراك الاجتماعي السريع بتراجع القيم الأخلاقية فلا قيمة للعمل، فقيمة الفرد يعود لملائته المالية، ولا يهم كيف حصل عليه، فمالك عبارة الموت يدخل ويخرج من صالة كبار الزوار ويُضرب له تعظيم سلام في حله وترحاله، وعامل مصنع النسيج يُضرب على قفاه إن طالب بتحسين ظروف معيشته.
تجاهد الطبقة الوسطى في الحفاظ على مكانتها في المجتمع المصري ولكن الطموحات أكثر من الفرص المتاحة، وفرص انزلاقها إلى الطبقات الدنيا أكبر من احتمال نجاحها في الحفاظ على مكانتها التاريخية، ولقد أصاب اليأس والاحباط العديد من شرائح هذه الطبقة، ولم يعد صادماً للمتابع للشأن المصري توارد الأخبار التي تشير إلى التحقيق مع أحد القضاة حول تلقيه لرشوة، أو ضابط أحيل للتحيق بشأن إفراطه في تعذيبه أحد المواطنين مما أدى لوفاته أو إحالة أحد أعضاء مجلس الشعب للتحقيق بشأن استيراده لدماء ملوثة... والكثير الكثير من الأمثلة.
وفي حالة الحراك الاجتماعي السريع يتوه الفكر كما تضيع القيم فتخرج إلينا الفتاوي كالمطر من كل صوب كفتوى إرضاع الكبير ومسلسلات تليفزيونية وأفلام تتسم بعدم الاتقان وضحالة الفكر أو غيابه، غياب الهدف وانعدام الرؤية هي ما يميز المجتمع برمته.
وفي هذا الخضم والبحر المتلاطم لابد من ظهور وشيوع اللامبالاة وعدم الإحساس بالمسئولية والقدرة على الهروب من المساءلة.
قادني سوء الطالع إلى اصطحاب أسرتي لقضاء أسبوع في فندق براديس المعمورة في الاسكندرية، وتعرضت خلال الاستمتاع بمياه البحر إلى لسعة قنديل بحر عملاق مما استدعي علاجي وقررت مغادرة الفندق وأبلغت إدارة الفندق بذلك قبل مغادرتي للفندق بيومين، ولدى المغادرة رفضت إدارة الفندق إعادة المبلغ المتبقي لي، بحجة أنني لم أكل الأيام التي حجزتها مسبقاً وكان رد مدير عام الفندق "فلوسك مش حترجع لك". وحررت محضر بذلك في شرطة السياحة، بعد انتظار في قسم الشرطة في المنتزه لمدة ثلاث ساعات محاولين إثنائي عن تقديم البلاغ.
وكان تعليق الضابط على إصراري بتسجيل محضر بالواقعة أن فلوسي لن ترجع لي قبل خمس سنوات، فمدير الفندق يعلم علم اليقين بأنه لن يحاسبه أحد والشرطة منشغلة عن الحفاظ على حقوق الناس بالحفاظ على العروش التي بدأت عجلات تدحرجها بالدوران.
وهكذا في الحراك الاجتماعي السريع تحل قيم الشطارة والفهلوة والبلطجة محل قيم الاتقان في العمل والصدق والنظام.
ومما يثير الدهشة والذهول أن تلتقي أحد الأشخاص فتبادرة التحية بـ صباح الخير فيرد عليك وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وكأن الدين قد تم اختزاله في الشكل والنص فقط دون المعنى والسلوك فالفوضى والعشوائية تعم كل الأماكن والتناقض جلي ما بين النص واواقع، فالثورة العلمية التي عصفت بالغرب منذ جاليلو وكوبر نيكوس وصولاً إلى الثورة الصناعية في بريطانيا في القرن الثامن عشر وما سبقها من عصر التنوير على يد فولتير وكانط وهيجل لم تصلنا بعد، فلا زلنا محكومين بالفقه الظلامي، فالحداثة تحاصرنا من كل حدب وصوب ونحن لم نأخذ منها سوى الشكل، فديننا يدعو إلى الجودة والاتقان – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من عمل منكم عملاً فليتقنه" والحقيقة أن منتجات الصين أصبحت تزيح منتجاتنا حتى في سجادة الصلاة وفوانيس رمضان، وتراثنا المليء بالقيم النبيلة والحث على الفضيلة، أصبحت ترتكب باسمه أبشع أنواع العنف من ذبح للرقاب وتفجير للأبرياء.
لست أفهم كيف يتساءل الناس عن كيفية حل مشكلة العشوائيات وهي أبسط بكثير من العشوائيات التي تغلغلت في عقول البشر وتحكمت بطرق التفكير وانعكست على السلوكيات في المجتمع بأسره.