03 Sep
03Sep

الأهرام 9/3/2005

مؤكداً أن الفلسفة الإغريقية هي التي شكلت بدايات الوعي الإنساني

(( حقائق الوجود )) في وعي كاتب عربي

ما هو الوجود؟ ماذا يجب أن نفعل؟ ما هي الحقيقة؟ ما أهمية تطبيق عقوبة الإعدام؟ ولماذا يزهق المجتمع أرواحاً من المفترض أن يحافظ عليها؟ .. هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة يحاول أن يجيب عنها الكاتب محمود يوسف خضر في كتابه ((في حقائق الوجود)) ولقد استخدم المؤلف في كتابه لغة لا تقول حقيقة ما ترسمه الحروف بقدر حاجتها إلى التأويل، كما أنه آثر السير بين علامات الاستفهام والتعجب، لذلك نجده يمزج في القسم الأول من الكتاب – في مجموعة مقالات – ما بين الأسطورة ومواضيع فلسفية، كالأخلاق والجمال والفن والزمن. بينما يتحدث عن ميلاد الفلسفة اليونانية في القسم الثاني من الكتاب. أما القسم الثالث فيتناول إشكالية عقوبة الإعدام كمشكلة أخلاقية، أراد المؤلف الدفع بها إلى السطح للجدل حولها بالرغم من اعترافه بأنها لا تأتي في مصاف المشكلات الكبرى كالوجود والعدم، أو الخير والشر.

وحول اختياره الحديث عن الفلسفة اليونانية يقول خضر: لا غرابة في أن يتساءل أحد: لماذا تعرضتُ لتاريخ الفلسفة الإغريقية فقط؟ إنني أروي تاريخ هؤلاء الفلاسفة الأوائل بشكل مبسط لأنهم أسسوا أنساقاً فلسفيةً تبدو خطأً كبيراً للأجيال اللاحقة، ولكنها بدايات الوعي الإنساني المؤسَّس على التفكير العلمي بعيداً عن الحكمة ومنفصلاً عن الخرافة. كما أنه لا يفهم الحضارة الأوروبية دون معرفة الحضارة الإغريقية التي تشكل الفلسفة اليونانية عَمودها الفقريَّ. لقد غرقت أوروبا في عصور الظلام ألفَ عامٍ عقب تنصلها من الحضارة الإغريقية والرومانية بعد ظهور المسيح إلى أن جاء عصر الرينساس منطلقاً من دويلات إيطاليا التي كانت لا تزال يفوح من معابدها بخورُ فينوس وتتراقص على جدرانها خيالاتُ مسرحيات سوفوكليس، وأعيد اكتشاف أفلاطون بفضل الفلورونسيين فأثارت المحاورات الأفلاطونية نقاشاً حاداً طوال القرنين الخامس عشر والسادس عشر. إن فلاسفة الإغريق الأوائل وأدباءها من طاليس إلى أفلاطون ومن إريستوفانيس إلى إسخيلوس عاشوا للمعرفة فقط قبل أن تكون للمعرفة سلطة ولم يجعل الإغريق منهم قديسين بل مات سقراط محكوما عليه بالإعدام، وكاد يباع أفلاطون كعبدٍ في سوق النخاسة. يقول الكاتب الدكتور ثروت عكاشة (( ها هو الأستاذ محمود يوسف خضر الذي عرفته منذ شبابه المبكر متعطشاً للمعرفة دؤوباً على تحصيلها متردداً على مجالس الأدب والفكر والفن بانتظامٍ يثير الإعجاب عاشقاً لكل ما صدر عن الحضارة الإغريقية من فكرٍ وفنون)). هذا كتاب شائق رفيع المستوى من نوع السهل الممتنع أوصي أن يطالعه النشْء في أنحاء أمتنا العربية ليكون مدخلاً إلى ما هو أشق وأعمق. ويبدأ محمود يوسف خضر حديثه عن الفلسفة اليونانية بسرد معتقدات الإغريق حيث كانوا يعتقدون أن أهم الآلهة تؤلف أسرة واحدة تعيش فوق قمة جبل (( أولمب )) وكان لكبيرهم إله الرعد زيوس عدة زوجات كانت أهمهن (( هيرا )) وله منها (( مارس )) إله الحب و (( أفرودايت )) إلهة الجمال والحب و ((هرمز)) رسول زيوس و (( ديونيسوس)) إله الخمر وقد صور الإغريق الآلهة بأشكال مختلفة فمنها من كان وسيم الطلعة أو قبيح المنظر ومنها من كان عجوزاً أو شاباً وفقاً لمهنته. هكذا انبعثت الفلسفة اليونانية في ظل هذه الآراء وكانت معولاً أخذ يهدم بفاعلية كل هذه المعتقدات. واتفق مؤرخو الفلسفة من الغربيين على أن اليونانيين مدينون للشرق القديم بالكثير من النظم والمعلومات الرياضية والأفكار الفلكية...

لكنهم يرون أن الفلسفة اليونانية إيجادٌ عبقريٌّ أصيلٌ جاء على غير مثال، وليست امتداداً أو تطوراً لحكمة الشرق القديم، إذ كانت التماساً للمعرفة النزيهة التي ترمي إلى كشف الحقيقة بباعث من اللذة العقلية وحدها، دون أن تدفعه إلى ذلك أغراض عملية أو غايات دينية. وإذا كانت مناهج البحث عند قدماء الشرقيين قد اختلط فيها الاستدلال العقلي بالبديهة والخيال وكانت تأملاتهم وليدة معتقداتهم الدينية، فإن الفلسفة اليونانية قد قامت على البرهان العقلي والتحليل المنطقي. ويشير المؤلف إلى أن الفلسفة اليونانية مرت بثلاث مراحل، استغرقت الأولى والثانية منها العصر الهليني الذي انتهى بموت أرسطو والإسكندر الأكبر في أوائل القرن الرابع قبل ميلاد المسيح. وفي المرحلة الأولى التي كانت إبان القرنين السادس والخامس قبل الميلاد وُضعت أصول الفلسفة النظرية على يد الأيونيين والفيثاغوريين والإيليين، ثم نشأت الفلسفة العملية على السفسطائيين وسقراط الذين أنزلوا الفلسفة من السماء إلى الأرض، فاتخذت الإنسان والأخلاق مجالاً لبحثها.

وفي المرحلة الثانية التي كانت إبان القرن الرابع قبل الميلاد كانت فلسفة عملاقيّ الفلسفة اليونانية أفلاطون وأرسطو قد استوعبت شتى فروع العلم وتناولت بالدراسة العميقة مسائلَ الفلسفة طولاً وعرضاً.

أما المرحلة الثالثة التي شغلت الفترة ما بين القرنين الثالث والأول قبل الميلاد، فكانت في العصر الهلينستي، وفيه افتقد اليونانيون استقلالهم في موقعة ((خيرونيا))

وأذهل الاسكندر العالم بانتصاراته الضخمة في فتوحاته للشرق. ومالَ الفكرُ الفلسفي في هذا العصر إلى الغروب ونضبت أصالتهُ وجفت ينابيع الابتكار وتدهورت الحياة العقلية التي بلغت ذروتها على يد أرسطو وأصبح الفلاسفة يستخفون بالنظر العقلي المجرد ويسخّرون الفكرَ لخدمة الأخلاق، وكان مصداق هذا في أكبر مدارس العصر الفلسفية، وفي مقدمتها (( الرواقية )) و (( الأديقورية )).

وينتقل المؤلف للحديث عن عقوبة الإعدام والجدل المثار حول أهمية استمرارها وتاريخ هذه العقوبة في مصر الفرعونية، وفي قانون حمورابي، وفي الشريعة اليهودية، وفي المجتمع الجاهلي، وفي العصر الحديث.

ومن الجرائم المعاقب عليها بالإعدام في مصر الفرعونية: عدم إفشاء مؤامرة ضد الفرعون، وعصيان أوامر الملك، وقتل الحيوانات المقدسة، والعيب في المقدسات، والاغتصاب والسحر، والتصريح الكاذب عن الموارد المالية، والحنث في اليمين، والقاتل أباه.

وكان الإعدام مع التعذيب عقاباً للزاني إذا حصل من سيدات الطبقة الأولى في المجتمع، ثم أصبحت العقوبة هي جدع الأنف، والقاتل أباه كان يعدم بغرز قطع من القصب في جسمه، ثم يقطع الجلادون من لحمه قطعاً صغيرة بآلة خاصة وبعد ذلك يلقى به على كومة من القش ويحرق ببطىء.

أما الإعدام بالصلب فكان يمثل في الخونة والمتمردين. ويدخل في سلطة القاضي اختيارُ طريقة إعدام المجرمين بين الشنق أو الإغراق أو التقطيع أو الحرق.

وتذهب بعض الآراء إلى أن المحكوم عليه كان يُعطى بخوراً أو شراباً مخدراً لتخفيف آلامه. ويقول المؤرخ ديور الصقلي: إن الإعدام قد أُلغيَ أو عُطّلَ في بعض فترات حكم الأسرى الـ25 وأبدل بعقوبة السجن مع تقييد المجرم بالسلاسل وتشغيله في الأعمال العامة، ولكن يبدو أن الإعدام  سرعان ما أعيد من جديد وظل مقرراً حتى نهاية العصر الفرعوني. أما الجرائم المعاقب عليها بالإعدام أثناء حكم حمورابي فهي: السرقات الكبرى، إخفاء المسروقات التي أخذت بالعنف، إزالة الوشم عن وجه العبد لإخفائه عن مالكه، القتل، زنى المرأة، اغتصاب المرأة، الشهادة الزور في جريمة القتل، البلاغ الكاذب عن ارتكاب جريمة وهمية، ومحاولة التهرب من أداء الخدمة العسكرية.

ومن الجرائم المعاقب عليها في الشريعة اليهودية: السحر، عبادة الأوثان، الارتداد، الذين يحقرون الرب، كل يهودي يشتغل يوم السبت، الزاني والزانية، اللواط، تُعدَم كل فتاة تخفي عن زوجها أنها ليست عذراء، يعدم مرتكبو الاتصال الجنسي بالمحرمات وإتيان الفواحش.

أما المجتمع العربي في الجاهلية فلم يكن منتشراً به عقوبة الإعدام، وإن كان لكل قبيلة نظامُها المستقل، وكان للرجل الجاهلي على امرأته وأولاده حقُّ الحياة والموتِ، ولم تكن الأم سوى وعاء للجنين. وكانت جريمة الزنى يعاقب عليها بالإعدام خوفاً من اختلاط الأنساب، وإذا وقع قتلٌ من اثنين من عشيرة واحدة، أو من عشيرتين مختلفتين كانت من حق وليّ الدم أن يثأر في الحال أو خلال أيامٍ قليلة، فإن تم ذلك يكون الأمر قد انتهى، وإلا تدخّل الحكماءُ لبذل المساعي الحميدة وينتهي الأمر بتسليم القاتل للاقتصاص منه أو لدفع الدية، وكان تسليم القاتل إلى أهل المقتول معروفاً لدى الرومان.

ومن أهم الحجج المؤيدة لبقاء عقوبة الإعدام كونُها مخيفة تهلع قلب من تسول له نفسه الإقدام على جريمة يكون معاقباً عليها بالإعدام ( إذ يجدون أمام الدافع إلى الجريمة مانعاً قوياً وهو حرمانهم من حقهم في الحياة، هذا التهديد في الواقع من أهم وسائل المنع العام وأكثرها فاعليةً).

ويرد المؤلف على هذه الحجة بقوله: إن المجرمين لم يرتدعوا، بمعنى أنه إذا كان للدرع دورٌ مهمٌ في إجهاض نيات المجرم الإجرامية فلماذا مازال هناك مجرمون يرتكبون جرائم معاقباً عليها بالإعدام، حتى الآن بل الأدهى من ذلك أن آرثر كوستلر يقول: إنه في العصر الذي كان فيه النشّالون يُعدمون في إنجلترا كان لصوص آخرون يمارسون مهازلهم بين الجمهور المحتشد حول المشنقة التي يشنق عليها زميلهم. وإجمالاً فإننا لا نستطيع أن نزعم أن الإنسان لا يخشى الموت، إن الحرمان من الحياة بدون شك أقصى عقوبة وإذا كان الخوف من الموت بدهيّاً– فمن البديهي أيضاً أن هذا الخوف لم يكفِ لردع الأهواء البشرية، فالانتقام والشرف والحب والكرامة تستطيع كل منها بسهولة أن تواجه الخوف من الموت وبذلك لا يكون للردع العام دور أساسيٌّ حيث إنّ الدافع للقتل يهدم الخوف من الموت، وغالباً ما يُصدر القاتل حكماً ببراءته من قبل أن تصدر المحكمة حكماً بإدانته.