15 Sep
15Sep

الاتحاد – الاثنين 1 شعبان 1425 هـ. الموافق15 سبتمبر 2004م

دعا إلى ثورة فكرية شاملة في العالم العربي

 محمود خضر: إرثنا الثقافي قائم على الوهم.

حوار- محمد الأنصاري:

حمل ما تجمع لديه من زاد معرفي، وطموح إنساني يتوق للخير واكتشاف بواطن الوجود والعدم والتضادات اللامتناهية، وطاف بعوالم الفكر والفلسفة في روما وبلاد الإغريق مروراً بالميثولوجيات الشرقية في بلاد الرافدين ومصر الفرعونية؛ فاتحاً أبواب التساؤل على مصاريعها، من غير أن يكون للقيود الثقيلة التي يرزح تحت وطأتها العقل العربي أي أثر على مسار رحلته المسافرة في تاريخ التفكير البشري منذ وعيه الأول، أو تعتم على رؤيته تلك الأطر الضبابية التي تحاول تجميد العقل وتنزع عنه صفته التي سمي لأجلها "عقلاً"، وهي عدم الرضا بالبديهيات والتفكير في أدق الأمور الكونية وأكثرها حيرة وتعقيداً، بدأً بالعلة الأولى والواجب والمطلق والخير والشر والجمال والقبح والعدم والفناء والتأمل في الذات الإنسانية.

انطلق كاتبنا في رحلته ليطوف في أساطير الإغريق المفسرة لنشوء الكون والأشياء، جالساً تارة في إحدى زوايا المدرسة "الأيونية" ليستمع إلى حكمة طاليس الطبيعية، وتارة أخرى يسافر عبر المتوسط ليصل إلى "كروتونا" جنوبي إيطاليا ليراجع ما قاله فيها فيثاغورس من نظريات تناسخ الأرواح والانسجام، مروراً بهيرقليطس صاحب "صراع الأضداد"، ليفتح الباب بعد ذلك على السوفسطائية وروادها الأوائل منتهياً إلى أركان تلك المحكمة التي شكلت وصمة عار في تاريخ الفكر الإنساني حين حكمت على سقراط بالموت وهو يدعوها للحياة، ثم يدخل كاتبنا بجواز سفره الفلسفي إلى جمهورية أفلاطون، ليفر منها إلى فضاء أرحب هو فضاء السؤال الذي يبحث عن الحقائق دون ملل أو كلل، فهاجس السؤال عنده هو ما يدفعه للبقاء والحياة، ويرى أن الإنسان حين يتوقف عن السؤال فإنه يكون قد مات فعلياً، يحلم بالفضيلة وبعالم يسوده السلام، ويرفض العبارات الصفر التي تخرج من كهوف المصالح والرغبات لتقول أن التاريخ انتهى، يشعر بالأسى على حال الأمة وما وصلت إليه من تردي، دافعاً بالفكر والمعرفة الحرة كحل حقيقي للخلاص من الضياع؛ إنه الكاتب والباحث محمود يوسف خضر المستشار القانوني في المجمع الثقافي، الذي حاورناه عن تجربته في الكتابة ودروبها الشائكة التي يسلكها العقل وتحديداً في تجربته بإثارة السؤال الفلسفي عبر كتابه "في حقائق الوجود" فكانت هذه الحكاية الفكرية الإنسانية التي يرويها لنا في هذا الحوار:

 ما هي الأسباب التي دفعتكم إلى الاهتمام بهذا الحقل - الفلسفة - دون غيره من حقول المعرفة الإنسانية، والكتابة فيه؟.

 هناك ميل جارف وغامض لدى كلّ منا لمعرفة أدلة جديدة تجلو مصيرنا وبالرغم من أن عقلنا مكبل بالمقدسات والخرافات، إلا أن هناك سعياً مستمراً لمعرفة الحقيقة والمصير، سعي صامت دؤوب. وهذا الفضول السامي المطعم بعلامات الاستفهام يقودنا دائماً إلى معرفة جديدة، وما الفلسفة سوى المحاولات المستمرة والمتجددة لمعرفة موقعنا ومصيرنا في الكون، وما الفيلسوف إلا الرجل الذي أدرك ذلك الشعور الغامض إلى المعرفة فاتجه نحو البحث الفكري العميق. لقد كانت الفلسفة والكثير من العلوم تشكل حقلاً واحداً، وبمرور الزمن خرجت علوم الكيمياء والرياضيات والفلك وغيرها من تحت عباءة الفلسفة، وأصبحت العلوم أكثر تخصصاً، وغدا تاريخها هو تاريخ تحررها من الفلسفة التي أخذت تضيق رقعتها.

إن استعراضي لتاريخ الفلسفة الإغريقية هو للتعريف ببدايات الوعي الإنساني المؤسس على التفكير العلمي، بعيداً عن الحكمة ومنفصلاً عن الخرافة. إنني أرى الإنسان العربي بحاجة إلى ثورة فكرية تهز الثوابت الهشة التي يحيا عليها ويتمسك بها، أليس مثيراً للتساؤل تقدم الأمم الأخرى وتخلفنا نحن؟، لقد تقدمت علينا شعوب كانت في السبعينيات من القرن الماضي تدفن ضحاياها في مقابر جماعية، إنني أحاول بالفلسفة ومن خلالها أن أنتقل بالقارئ من اليقين إلى عدم اليقين ومن الجهل إلى المعرفة، ومن المعرفة إلى الجهل، من أجل إعادة البناء ولو كانت البداية نفسها ولكن على دعائم نقدية يقرها العقل لأفتح له فتحاً مجهولاً يستطيع من خلاله أن يسيطر العقل على حياته وأن يكون فاعلاً في مصير أمته، إنها خطوات أولى، قد تبدو هزيلة ولكنها ضرورية لخلق الرغبة في الإدراك والإقدام.

حين يصدر كتاب معين فإن قيمته تتمثل بما أضافه للموضوع أو الصنف الذي ناقشه، فما هي إضافة كتابك في هذا الجانب؟ بمعنى آخر ما هي مميزات الكتاب على مستوى الإضافة الفكرية؟.

إن كتابي لم يقدم نظرية معرفية جديدة ولكنه يقدم نسقاً جديداً من التمازج ما بين الأسطورة والتفكر العلمي، بعيداً عن التمييزات اللفظية قريباً من حفر الكلمة للوصول إلى المعنى مع عدم الثقة بما هو بديهي. فقد يسير الإنسان في طرقات عديدة دون أن يصل إلى نتائج، وقد يكون طريقاً غير مُعبّد ومليئاً بالمطبات هو الطريق الصحيح إلى النتائج، فقد يكمن كنز المعرفة في الابتعاد عن القواعد المتبعة، والمعرفة العلمية – على مشقتها – هي الوحيدة القادرة على جعلنا أسياداً، فعلينا أن نتعلم كيف نكون نبلاء دون أن نكون من سلالة النبلاء، وكيف ننمي في شعوبنا الشعور بالشرف والشجاعة مع المتانة الفكرية، متانة المحترفين والمبدعين، وليس متانة الهواة والتابعين، فنمط التفكير العربي يتبع النمط العاطفي وهنا تكمن الخطورة، وعلينا كمثقفين أو مدعي الثقافة أن نحاول بإخلاص جارف أن نغير من هذا النمط إلى نمط التفكير العلمي فهو الملاذ والأمان حتى لا نظل تائهين بين أمم عرفت طريقها، فليس كل نافع صحيح، كما أنه ليس كل صحيح نافع في ذات الوقت.

كهنة الأساطير

نعود إلى عنوان الكاتب؛ حيث أنك أطلقت عليه "في حقائق الوجود" - وهو مصطلح يقيني -، وكما نعلم أن الفلسفة تتعامل مع التساؤلات أو التشكيك الموصل لليقين؛ ألا ترى تعارضاً في ذلك بين عنوان الكتاب والموضوع الذي يناقشه؟

قد يكون من السهل أن يعنون كتابي "في أوهام العدم" أو "في أوهام الوجودية"، أو كما فعل جان بول سارتر "الوجود والعدم"، ولكني اتجهت إلى البدء بمصطلح يقيني لأصل بالقارئ إلى عدم اليقين، وإلى حفزه على التفكير بشكل علمي ومنطقي، فيكتشف العلاقة بينه وبين الأشياء، والعلاقة ما بين الأشياء وبعضها البعض. قد تبدو المسألة سهلة، ولكنها ليست كذلك.

والفكرة الأدبية التي بدأت بها موضوعات الكتاب، هي ليست كذلك، فالحقيقة، إنني بدأت بالفكرة الخرافية وانتقلت إلى الفكرة العقلية، إن الأساطير في العصور الأولى لم تكن سوى حقائق ومقدسات في المجتمعات التي كانت تتداول فيها، وهي بالنسبة لنا خرافات، بينما تبدو لنا الأفكار الأولى لتفسير الكون ونشأته وكأنها أحاديث أطفال، ومع ذلك فإنها عظيمة القيمة، إذ تكشف لنا عن تاريخ تطورنا المعرفي، وهي تبرز عظمة وفاعلية المخيلة الإنسانية التي حاولت تفسير أشياء يصعب تفسيرها. فالأسطورة تحمل دائماً الأحداث والوجود خارج الزمن وخارج التاريخ، وتعطي الإنسان وهم فهم الكون ووهم معرفة الحقيقة، وتحاول أن تفسر الظواهر الإنسانية والطبيعية، أما التاريخ فيعطينا تسلسل الأحداث والتشديد على المعنى والمحتوى الكامن في تسلسلها، وهو يدخلنا في الزمن في حين تخرجنا الأسطورة منه. إن المرء غير المدرك للأساطير هو الذي يعيش بالأساطير الكبرى. فلقد عدت بالقارئ إلى الأصول الأولى للتفكير الإنساني، وهذا ما اعتبرته أنت مدخلاً أدبياً، ولو قرئ على إنسان عاش في العصر الإغريقي لاعتبره كلاماً مقدساً، وربما بعد مئات السنين قد يبدو كتابي بلا معنى. ولذلك علينا أن نحترم الخرافات والأساطير فهي الجوهر العميق لتاريخ الفكر البشري ولكن من المهم ألّا نقدسها وألّا نثق بكهنتها. وعرضي للقضايا الفلسفية بهذا الأسلوب كان الأول من نوعه وربما إليه يعود نجاح الكتاب.

نظرية العولمة

مع تقدم العلوم التجريبية من كيمياء وفلك وهندسة وغيرها؛ هل تعتقد أن الفلسفة تراجعت؟ أم أن هناك أملاً في إحيائها وسط ضجيج العالم المعاصر الذي لا يأبه كثيراً للتفكير المنطقي والهادئ؟.

لا نستطيع التسليم بتراجع الفلسفة من حيث كونها تنطوي على قلق وجودي ومخاطر فكرية، وكما يقاس تقدم الدول بإنجازاتها ودخلها القومي، يقاس تقدم الشعوب بقدرة أبنائها على التفلسف في كافة أمورهم الحياتية، وقد يتم ذلك دون أن يدركوا بأنهم يتفلسفون. وعلى الرغم من وجود العلاقات الوثيقة  بين العلم والفلسفة، فإننا ينبغي أن نوضح بأن العلم عموماً موضوعي، فنقيس طول الأشياء أو أحجامها بمعايير علمية لا تقبل التأويل. أما في مجال الفلسفة فيترك للإنسان قياس أي شيء، وهو يختلف من شخصٍ إلى آخر، وكثير من نتائج الفلسفة لا نستطيع تقبلها. إن لم يكن لدينا الاستعداد الأخلاقي لذلك، وقد يتوهم البعض بأن الفلسفة تفكير تأملي عقيم، والعلم  تفكير منطقي مبني على التجريب، ولكن الحقيقة أن العلم والفلسفة، الأصل فيهما النظر والتفكير من أجل معرفة تعيد خلق حياتنا وفقاً لمقتضيات العقل. والنظرة إلى الفيلسوف كمن يدير رأسه للعالم وهو مغرق في التأمل بعيداً عن الواقع، هي كمن ينظر إلى رجل المخابرات على أنه شخص يعتمر قبعة ونظارة سوداء على قارعة الطريق ليراقب المشتبه به حين خروجه من المقهى، في حين أن من يقوم بتلك المهام حالياً أجهزة تسجيل وكاميرات في الشوارع.

الأنساق الثقافية

دعوت إلى مواجهة الأنساق الثقافية في البيئة العربية بالتخطيط العلمي لندخل العالم الجديد، هل يتم ذلك عبر ثورة ثقافية، أم من خلال الجهاز المؤسساتي، أم عبر طريقٍ آخر؟.

الإرث الفكري العربي يعتمد على الخرافة والتفكير غير العلمي، وهو قائم على الوهم، والثورة الفكرية لا تأتي فجأة ولا يقوم بها شخص محدد، وإنما هي انتقال من مرحلة إلى أخرى، وهي التي أدعو إليها بأن نحاول بث الوعي العلمي الذي يعتمد على التفكير العلمي، منطلقاً من معطيات العلوم الحديثة. وكلما توغلنا في هذا الاتجاه سنصنع جيلاً مثقفاً قادراً على التعامل مع معطيات العصر، وقد تكون نقطة البداية مشروعاً حقيقياً لمحو الأمية التي يعاني منها أكثر من نصف العالم العربي. والنقطة الثانية تتمثل في إعطاء المرأة حقها الطبيعي في المشاركة الاجتماعية والسياسية وهي تمثل نصف المجتمع المهمل. والنقطة الثالثة، وهي المتراس، وتتمثل بالمواجهة الفكرية العقلية لكل ما هو لا عقلي. فالعقل البشري هو الذي أنتج المعقول واللامعقول، والعقل العلمي هو الوحيد القادر على نقد الإثنين وتحليل ما هو الأنسب والأصلح. مثلما يعيد إنتاج الواقع وتوظيفه بما يؤدي إلى المزيد من التقدم والرفاهية، والعقل اللاعلمي يكرس الواقع بكل سلبياته ويؤدي إلى مزيد من التخلف.

 المؤسسات والأفراد مدعوون إلى اعتماد التخطيط في تسيير أمورهم، وينبغي أن توجد خطط محددة في الميادين المختلفة التي تهم الدول، وبالمقابل التخطيط للحياة من قبل الأفراد سواء لقضاء الإجازات أو لتعليم الأولاد، وهكذا يتم الانتقال من الغموض إلى النظام، وإدخال المنهج العلمي في التعامل بدلاً من ترك الأمور على عواهنها .

من فولتير إلى فوكوياما

قدم عصر النهضة: فولتير، نيوتن وكوبرنيك، بينما قدم عصرنا فوكوياما وهنتنغتون؛ قلتها بشيء من المرارة، هل في ذلك خيبة أمل في الفكر الإنساني المعاصر؟.

نقل عصر النهضة البشرية بأكملها إلى آفاق جديدة فكان لاختراع الطباعة على يد جوتنبرج، قرابة العام 1470م الفضل في نشر المعرفة المكتوبة ووصول الأفكار بشكل سريع إلى كافة المدن وكان للعالم العظيم جاليليو دوراً رئيساً في الدفاع عن نظرية كوبرنيكوس بشأن دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس. ولقد قضى عشرين عاماً في الدفاع عن هذه القضية، وكان يعرف النتائج الخطيرة المترتبة عليها في الفلك وفي زعزعة العقيدة الدينية  وقامت دعوته على أن نظرية كوبرنيكوس لا تتعارض مع العقيدة الدينية. وكان تفسيره للتناقض بين العلم والدين أنه تناقض ظاهري ناشئ عن مشكلة التعبير اللغوي. وحاول جاليليو مع البابا أوريان الثامن، في العام 1624م، أن يعدل موقف الكنسية من نظرية كوبرنيكوس، ولكنه لم يستطع. إنني أشعر بالاستياء عندما يخرج مفكرون من كهوف يدّعون فيها أن التاريخ قد انتهى وأن النظام الرأسمالي الحالي هو آخر الأنظمة التي سيشهدها البشر، مع أن كل نظام يحمل بداخله أسباب فنائه ولا توجد نهايات. أو أن يخرج مفكر آخر ليروج للصراع ما بين الحضارات ويواجهه آخرون بنظرية الحوار ما بين الحضارات.

إن التاريخ يعلمنا أن سلسلة الأحداث ترتبط بالمصالح المتحركة، ولا نستطيع أن نضعها في خانة الصراع ما بين الحضارات، ولا في خانة الحوار، إنما الحقيقة هي تفاعل ما بين الحضارات. فالحضارات تتفاعل في ما بينها فهذه تؤثر في تلك، وتلك تؤثر في هذه، ويتم التطور من خلال هذا التفاعل المستمر. فتعدد الثقافات وتفاعلها هو محرك إيجابي وليس سلبياً، ولنأخذ دولة الإمارات مثالاً  فالتعدد الثقافي والتنوع الموجود داخل الدولة أوجد نموذجاً يحتذى به. وأشاع روح التسامح، الأمر الذي نتج عنه ترسيخ أجواء من الانسجام الحضاري والثقافي على أرض الدولة. ويعود الفضل في ذلك إلى الرؤية الحكيمة لصاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان "طيب الله ثراه".

"في حقائق الوجود" وبعده "الفنون الإسلامية" .. في أي حقل سيكون كتابك الجديد؟.

إنني عاكف الآن على إعداد كتاب حول الفنون الإسلامية في الأندلس، من خلال البحث أستطيع القول بأن العرب فتحوا الصين من خلال اقتناع التتار بالإسلام على الرغم من أن التتار هم الذي احتلوا العالم الإسلامي، فيما فشل المسلمون في الأندلس على الرغم من كونهم دخلوها، إلا أنهم فشلوا في دخول العقل الاسباني. وربما يكتمل هذا الكتاب في خلال سنوات ثلاث من الآن، وسأعقبه بكتاب حول الفنون الإسلامية في الدولة العثمانية وبذلك أكون قد أعطيت لحياتي معنىً.