17 Feb
17Feb


في طريقي إلى الجزائر، عرجت على مدينة القاهرة ليومين، قصد اللقاء بصديق عزيز تربطني به علاقة ودية من أيام الطفولة، لكن ظروف الزمان والعمل فرقت بيننا وأبعدتني عنه قرابة عقدين. ولقد استقبلتني القاهرة، على غير عادتها، بطقس عاصف ورياح شديدة وبرد ينخر في العظام، فآثرت البقاء في الفندق والاكتفاء بدفء لقاء الأصدقاء. وفي اليوم التالي لبيتُ دعوة صديقي جان للغداء معه والتعرف إلى عائلته، وحيث أن هذه هي المرة الأولى التي سيراني فيها أولاده، وددت أن أكون متأنقا لما يتركه اللقاء الأول من انطباع يدوم لفترات طويلة، فبدا لي أن أذهب لحلاقة ذقني، فقصدت محل الحلاقة بالفندق الذي أقطن فيه.

وفي مدخل محل الحلاقة، فوجئت بموكب احتفالي مؤلف من ثلاثة أشخاص في قسم الاستقبال: فتاة جميلة يحيط بها شاب من كل جهة، وذلك أن الجمال دائما في القلب! وفي حين وقف الشابان جامدين كحرس الملكة، بادرت الفتاة فسألتني: ما المطلوب؟ فاستغربت السؤال، إذ إن شعر رأسي قد غادرها منذ زمن، ووجهي يئن من بياض اللحية المبعثرة في كل اتجاه. قطعت الاستغراب وأخبرتها برغبتي في حلاقة وتهذيب ذقني كاتما رغباتي الأخرى، فاصطحبتني إلى الداخل وأجلستني على كرسي الحلاقة وذهبت. وبعد مرور خمس دقائق جاءني أحد الشابين وأخبرني بأن الحلاقين يفطرون وسوف يأتون في الحال، فامتعضت ولم أجاوبه بشيء، إلا أن الاستغراب تملكني: أيخصصون لموكب استقبال الراغب في الحلاقة نجمين وقمرا، بينما كان الحلاقون يسترخون حول مائدة الفطور، وقد تجاوزت الساعة الحادية عشرة والنصف ظهرا؟! أخذت موجة من الأفكار والتساؤلات تكبر في ذهني: ولماذا لم يفطروا قبل مجيئهم للعمل؟! ثم بدأت أنفعل، فترجلت عن الكرسي وذهبت إلى الاستقبال غاضبا، وكانت قد مرت عشر دقائق، فسألت الفتاة عن الموعد السعيد الذي سيأتي فيه الحلاق بالضبط؟ فقالت: سنبدأ في تحضير حضرتك، وسيكون الحلاق قد وصل. فجاوبتها: ماذا ستحضّرون فيَّ؟ إنني جئتُ للحلاقة وليس للختان! فوضعت البنت يدها على فمها محاولة كتم ضحكة لم تتمكن من قمعها فنفذت من بين أصابعها، فيما نهض أحد الشابين من فوره معتذرا تارة، ومرحبا تارة أخرى، وهو يصطحبني إلى الداخل في آخر المطاف... 

جلست على كرسي الحلاقة، وشرع الشاب في أداء طقوسه: وضع البشكير على صدري رابطا إياه خلف عنقي، وبدأ في وضع رغوة الصابون على وجهي ودعكها بحركة بطيئة وحنان شديد استدعى النعاس إلى عيني، وبدأ الاسترخاء يتسرب إلى جسدي، وقبل أن أغفو دخل شاب في منتصف العشرينات، مرتديا قميصا أبيض بحمالات سوداء مشبوكة بأناقة في بنطاله الأسود، فتراجع المساعد على الفور بضع خطوات، وتقدم الحلاق الشاب بثبات نحوي مادا يده تجاه مساعده الذي ناوله موس الحلاقة، فشرع من فوره في حلاقة ذقني. ثم تراجع خطوتان فتقدم المساعد بحركة خاطفة وأعاد فرش رغوة الصابون على وجهي وتدليكها. وبعد أن أنهى دوره المرسوم بدقة مسرحية، تراجع خطوتان، فتقدم الحلاق بثقة إلى الأمام وأعاد مرة أخرى حلاقة ذقني، وما إن أنهى حلاقة وجهي للمرة الثانية حتى تراجع ثلاث خطوات، كانت كافية ليتقدم المساعد فنزع عني البشكير واستبدله برداء بلاستيكي أسود، وتراجع إلى الخلف. ثم تقدم الحلاق ممسكا بمقص صغير ومشط، وعمل على تهذيب لحيتي، وبدأ يطقطق بالمقص فوق رأسي وحول لحيتي، وعلى الفور تذكرت المثل المصري: "زي المزين يضحك على الأقرع بطقطقة المقص"! وبالفعل شعرت بالسعادة لما ولدت لدي إيقاعات طقطقة المقص حول رأسي من ذكريات عندما كانت الرأس مكسوة بالشعر. فلما انتهى، تراجع إلى الخلف خطوتان، فتقدم المساعد، فنزع الرداء البلاستيكي، وباشر في وضع بشكير صغير مبلل بالماء الدافئ، كان قد اختبر درجة حرارته على مساحة صغيرة من وجهي، فلما اطمأن إلى أن حرارته غدت ملائمة لي مسح به وجهي كاملاً، ووضع الكولونيا، والبودرة والكريم، والحلاق يتابع كل ذلك باهتمام شديد، وانتهت مهمة المساعد، فتقدم الحلاق ونظر إلى وجهي من الجهات الأربع، ولمس خدي، فأعرب عن رضاه بالقول: نعيماً... 

نهضت، وحاسبت في الاستقبال عن تكلفة الحلاقة، وأعطيت الحلاق ومساعده الإكرامية التي تتناسب مع الأداء المسرحي الذي رأيته، وما إن خرجت من المحل إلى ممر الفندق، حتى وضعت يدي على مكان ما من جسدي، حامدا المولى وشاكرا لطفه الخفي على النجاة، لأن العملية انتهت بسلام ولم يتجاوز الجرّاح الماهر، أقصد حلاق القرن الجديد، ذقني إلى المناطق الحميمة الأخرى...

بعد واقعة الحلاقة والاستمتاع بطقوسها المسلية، توجهت إلى بيت صديقي جان والذي اجتمعت فيه مصر التي عهدناها، تلك التي احتضنت من جاء إليها وصهرته في بوتقتها. فكل غريب يأتي إلى مصر لابد أن يتمصر بمرور الوقت. وقد تمصرتُ كما تمصر صديقي جان الذي ينتمي إلى الأرمن الذين قدموا إلى مصرفي عهد محمد علي.

ولقد تمصّر من قبلنا نوبار باشا أول رئيس وزراء لمصر الحديثة، إذ كان أرمينيا وعمل ترجماناً لمحمد علي باشا وولده إبراهيم باشا، ثم أصبح وزيراً للحقانية والخارجية والداخلية ورئيساً للوزراء في عام 1887م.

ولاحقا زاد عدد الأرمن في مصر طلباً للنجاة من بطش السلطنة العثمانية، حتى بلغ عددهم في إحصاء عام 1927 قرابة الـ 17 ألف نسمة، ويعيش أكثر من نصف الأرمن في الأماكن المكتظة بقلب العاصمة، على مقربة من كنائسهم ومدارسهم ونواديهم. وقد اعتبرت منطقتا بين السورين ودرب الجنينة منطقتين أرمنيتين في النصف الأول من القرن العشرين، بينما في النصف الثاني من القرن ذاته بدأ الأرمن ينتقلون للسكن في ضواحي مدينة القاهرة، مثل مصر الجديدة والنزهة والمعادي وحلوان

أما جان فهو صديق الصبا والشباب في حي الضاهر حيث نشأت بالقاهرة، وقد ظللت سنوات طويلة أبحث عن طريقة مجدية لأتصل به، بعد أن فقدنا التواصل لظروف خارجة عن الإرادة، حتى تمكنت من خلال البحث على "الفيس بوك" عن اسمه باللغة العربية مرة وبالإنجليزية مرة أخرى، أضع اسم العائلة قبل اسمه الأول مرة والعكس عشرات المحاولات حتى استطعت تقليص النتائج إلى خمسة، وكلي أمل بأن يكون واحدا منهم هو جان. ثم بدأتُ في الدخول إلى صفحاتهم واستعراض صورهم الشخصية، الملامح تغيرت بفعل الزمن، لكن روح جان كانت حاضرة في إحدى الصور. قلت للشاب الذي كان يعاونني في البحث: أجزم أن هذا هو جان، وطلبت منه أن يرسل له رسالة. وللأسف مرت أسابيع ولم يصلنا منه رد أو استجابة. كثفت البحث حتى عثرت على حساب لولد وبنت كلاهما يحمل اسم عائلة جان وكذلك سيدة، لا شك أنها زوجته وأن الولد والبنت هما من أبنائه، ولن نخسر شيئاً في محاولة التواصل. وعلى استحياء أرسلنا لهم رسائل، استجابت السيدة التي ظهرت في البحث إلى جوار صفحة أدبية تحمل اسم (الحياة في سطرين)! ثم ظهر الابن، فكانت فرحتي لا تقدر عندما أملت السيدة عليّ رقم هاتف جان، فبادرت إلى الاتصال به لأسمع صوته بعد انقطاع صحراوي ترامى بيننا لعقود، تحمل هاتفي مشاعرنا المختلطة وفرحتنا المتبادلة، وانتظرت اللقاء

أزهرت المراسلات بيننا وامتدت، ونحن نحاول معا أن نردم الفجوة الزمنية والفكرية التي أحدثتها وحشة الغياب وطول البعاد. وقبل موعد اللقاء بأيام، أخبرني جان أن ميرا (زوجته) تستعد من الآن لاستقبالي، وقد طلبت منه سؤالي عن أصناف الطعام التي أحبها لتقوم بإعدادها بنفسها. قلت له: أتمنى أن تكون طاولة العشاء مصرية شعبية خالصة، تزخر بالكبدة وصينية رقاق باللحم المفروم والباذنجان المخلل. ولقد قضينا أمسية ودية حافلة أعادت إلينا أيام الصبا والشباب، عندما كنّا نتردد على جان في فترة مساعدته لوالده في المحل الذي كانوا يمتلكونه في شارع قصر النيل. وكان والده السمح الكريم دائماً يحيي قدومنا بتقديم الباتيه والهوت شوكليت أو الآيس شوكليت من محل البن البرازيلي الشهير. وكان ذلك من أوقات الرفاهية التي كنا ننعم بها

وتفتحت أمامنا آفاق الذكريات، ورحنا نستعيد مشاهد من سهراتنا في منطقة الأهرامات، وكانت لا تزال مفتوحة يقصدها الشباب للسهر فيها ليلاً، فكنتُ أنا وجان والصديقين تادرس وخالد الزعبلاوي، نفترش الأرض ومعنا الجبن الرومي وخبز الباجيت والبيرة المثلجة. وكنا نركب الحافلات العامة (الأتوبيس) من دون أن نتحمل عبء دفع التذكرة، حيث كان أحد أصدقائنا يعمل والده في هيئة النقل، وكان لديه اشتراك (أبونيه). وكان للحافلة بابان: باب في المؤخرة لصعود الركاب، وباب في المقدمة لنزولهم. وكان محصل التذاكر (الكمسري) يجلس على يمين الداخل من باب الصعود، بشكله المميز ومنديله الذي يضعه بين رقبته وياقة الجاكت البني، يدق بيديه على الطاولة الخشبية الصغيرة التي أمامه، وينادي بصوت جهوري: "تذاكر يا سادة". فكان صديقنا حامل (الأبونيه) إذا دخل يقول مباشرة: أبونيه، ويبرزه. ثم نردد نحن من خلفه كجوقة العازفين (أبونيه.. أبونيه). وكان من أجمل ما نحرص على الاستمتاع به في القاهرة أيام الصبا هو النزهة على متن المركب في النيل (الفلوكة). كنا نمتطيها ونشق مياه النهر، يصحبنا نسيم الهواء مع اهتزاز الفلوكة، وضحكاتنا الهادرة تتردد على صفحة النيل. كنا نجدف ونجدف في كل اتجاه، حتى نتعب. والتجديف في النيل لا يخلو من صعوبة، نظراً لكثافة الماء العذب مقارنة بالماء المالح في البحر. وكنا ننهي جولتنا لنكتشف في المساء عندما نخلد للنوم أن أيادينا قد احمرت وظهرت بها (فقافيق) من شدة احتكاكها بالمجداف

ولعل أطرف الذكريات أننا أنشأنا لغة خاصة للتواصل بيننا، ينادي أحدنا على الآخر بها. وكان الصفير، بإيقاعه الشخصي المتميز، هو العلامة السرية التي تغني عن أي كلام. فكنت إذا أردت جان أو تادرس أطلقت صفرة منغومة لهما من الشارع ذات إيقاع خاص، فيخرج لي من شرفة شقته، فإن كان الوقت مناسبا دعاني للصعود إليه، أو نتفق على الذهاب إلى مكان ما. وكانت والدة جان تداعبه عندما تسمع صوت صفيرنا وتقول له: (عصافير الكناريا بتنادي عليك يا جان)

وقبل أن ننهي حديث الذكريات في ختام الأمسية، سألني جان: هل تذكر سهراتنا في الهيلتون؟ فاتسعت عينا ميرا وتساءلت: وهل كنتم تسهرون في الهيلتون؟ فأجبنا بصوت واحد: نعم! استثارت ضحكاتنا المكتومة فضول الأولاد فقالوا: لا بد أن هناك سببا لضحكاتكما المكتومة هذه! قلت: نعم، لقد كنا نسهر أمام الهيلتون على النيل نستمتع بجمال المنظر والتباهي على الرفاق في المدرسة بأننا كنا سهرانين في الهيلتون. لكن الحقيقة هي أننا كنا إذا أردنا دخول الحمام توجهنا بهدوء وبخطوات واثقة، فندخل بهو الفندق وكأننا سياح. كان جان يعتمد على ملامحه الأجنبية، أما أنا فكانت مشيتي بهدوء وثقة توحي أنني أحد مرتادي الفندق أو نزلائه

وهكذا كانت ليالينا في القاهرة بين الفلوكة والحافلات والمشي على الأقدام، وحتى رحلتنا ذات الاتجاهين، ذهابا وإيابا، في الترام من الضاهر إلى السيدة زينب. وكنا نركب الترام بتوصية من والد صديقنا، فكان محصل التذاكر لا يطلب منا الأجرة. لكن، كان علينا الانتظار في خط العودة حتى نعود مع نفس الشخص الذي تمت التوصية له. أما هامش توفير النقود فكنت أدخرها لشراء الكتب، حتى إني كنت أقطع الطريق إلى الجامعة مشياً على الأقدام لتوفير بضعة قروش كونت منها ثروتي الأولى من الكتب، والتي كان من أحلى ثمارها أن دونت فصول كتابي "في حقائق الوجود". 

وأنا اليوم مع استعراض لقطات من شريط الذكريات، لا يمكن أن أنسى ساعات المعاناة التي مررت بها، كما أتذكر بانشراح لحظات الفرح عندما حصلت على جائزة التقدم العلمي في فرع الفنون عن كتابي "تاريخ الفنون الإسلامية". لم أكن لأكتب في الفنون الإسلامية، لولا محفوظات الذاكرة من القاهرة الفاطمية والمملوكية بمساجدها وأسبلتها، وشوارعها وعمارتها الزاخرة بالفنون والجمال. وهكذا تتحول أيام العمر ودروب الحياة، بحلوها ومرها، إلى ذكريات عزيزة لا تنسى. والأهم من ذلك أن كلماتنا هذه هي الباقية لتؤكد أننا مشينا في تلك الدروب وتركنا آثارنا عليها، ولم تكن حياتنا عبثا...

 محمود يوسف خضر

 *الصورة لجوني ديب من فيلم  
سويني تود الحلاق الشيطاني لشارع فليت
 (Sweeney Todd: The Demon Barber of Fleet Street)