25 Oct
25Oct

وادي سوف.. رحلة في قلب الصحراء الكبرى

يدرك الكثير من البشر جمال المدن التي تنتهي طرقاتها إلى البحار، ويدرك الكثير من البشر جمال المدن التي تخترقها الأنهار، ويعتقد الكثيرون بأن الصحراء صامتة كالموت، والقليل يدركون ما تضج به الصحراء من حياة وما تكتنزه من جمال.

تراءت لي هذه الأفكار كمظلة قزحية، على وقع زخات المطر الذي غمرنا عند مغادرتنا فندق شيراتون الصنوبر في الجزائر العاصمة، متوجهين إلى المطار قصد "ولاية الوادي" في الجنوب الشرقي من الجزائر في قلب الصحراء الكبرى. التي وصلناها بعد أربعين دقيقة بالطائرة.

قبل قرونٍ عديدة، وعند مجيئ قبيلة "طرود" إلى هذه المنطقة قالوا نسكن هذه "السيوف" أي: الكثبان الرملية؛ لأن حوافها تبدو للناظر كـ "حد السيف" ، وإلى هذا يعزون تسميتها بـ "سوف" ،  وهناك رواية أخرى تشير إلى أنها أطلقت نسبة إلى نهر كان يجري بالمنطقة من الشمال نحو الجنوب يدعى "واد أزوف" Oued Izouf أي: النهر الرقراق، والذي غار في أعماق الأرض ولم يبق إلا آثاره فتغير اسمه إلى "سوف". واستمرت مياه الوادي في الجريان حتى القرن الخامس عشر الميلادي، ولما نضب الماء نهائيًا من فوق الأرض، صارت الرمال تغطي العرق السوفي مكونة وادياً من الرمال فأصبح مصطلح "وادي سوف" يعني "وادي الرمال"، وهكذا تتغير ملامح الطبيعة وتتبدل الأسماء على وقع رياح الزمن.

من نافذة الطائرة، وقبل هبوطنا في مطار "قمار" تمكنّا من مشاهدة مزارعها الخضراء ونخيلها المشتهر  برطب دقلة نور ذائعة الصيت.

استغرق انتقالنا من المطار إلى مقر إقامتنا بمنتجع "الغزال الذهبي" الكبرى قرابة ثلثي الساعة. مررنا في طريقنا على مبنى بلدية قمار، الذي يتميز تصميمه المعماري بزخم من القباب التقليدية، وقد كتب على جدرانه "للشعب وبالشعب" ومرت قافلة السيارات بنا عبر طريق بلدية "تغزوت" وهي كلمة بربرية تعني: المكان المرتفع الملتف الأشجار، وبلدية "كُوَينِين" وترجع التسمية إلى أنه كان لعائلة سكنت هناك "كانون" تُعيره لمن يريد طهو طعامه عليه بلا مقابل، و"كُوَينِين" تصغير لكلمة كانون.

وفي "الغزال الذهبي" كان الاستقبال مهيباً، معبراً عن التراث الشعبي الموروث في وادي سوف، فجاءت كلوحة فنية ضمت كل ألوان التراث، حيث شاهدنا رقصة "الزقايري" التي تعد بصمة سوفية تميزها عن فيافي الصحراء، رقصة ذكورية يؤديها الراقص برفع رجل واحدة إلى الأمام والقفز بها مع الارتكاز على الرجل الأخرى والرقص في شكل دائري مع هز الأكتاف، ويكون ذلك مصحوبا بنغمة الزرنة مع طلقات البارود. شباب ورجال يرقصون بالأرجل بشكل استعراضي على أنغام الزرنة، وهي آلة موسيقية هوائية تعمل بالنفخ وتتألف من قصبتين وجسمها خشبي، حيث يتم النفخ في القصبتين بقوة فتصدر صوتا عاليا  جدا، لذلك تشكل والطبل ثنائيا متناغما، وهما يستخدمان عادة في الاحتفالات الاجتماعية وخلال الرقص يرددون الشعر الملحون، بمصاحبة البندير (الدف) والدربوكة.

وفي جانب آخر كانت رقصة الدرازي ، حيث يقوم شيخ بضرب قدميه على الأرض بشكل متتالٍ على إيقاعات الغيطة "الزرنة"، وهي رقصة فردية قادمة من وادي ريغ.

وما إن تقدمنا قليلا داخل الرمال في المنتجع، حتى فوجئنا بسرب من الخيل يمتطيها فرسان يرتدون زياً خاصاً بألوان زاهية، وكل منهم يركب حصانه الذي دربه جيداً على الرقص على إيقاعات الزرنة، وتسمى هذه الرقصة باسم رقصة الخيل.

وفي حلقة دائرية مبهجة كان مجموعة من الراقصين المرتدين ملابس الدراويش، ينشدون الأهازيج الصوفية على أنغام الدفوف والبنادير، فتنعش قلوب المؤمنين.. كان كبيرهم الذي علمهم السحر ذو شعر أسود يصل إلى منكبيه وخدين بارزين وعينين نجلاوين. نعم، لقد عرفته. ما إن رأيته إنه وريث الصحراء فانضممت إليه كناسك خارجٍ من خلوته، حاملاً الصنوج في أصابعي منشداً: "نسمات هواك لها أرج، تحيا وتعيش بها المهج، وبنشر حديثك يطوى الهم عن الأرواح و يندرج."

وبعد أن أعيانا الوجد وحل بنا التعب، توجهنا إلى غرفنا ذات القباب وجدرانها المزينة بلوحات مستوحاة من التراث الجزائري، وبعد استراحة قصيرة توجهنا لتناول الغداء في خيمة تقليدية وسط الرمال، الخراف المشوية، الكسكس، شوربة الحريرة، والكسكس المحلّى بالعسل تبعناه بالتاي (الشاي) التقليدي.

خرجنا من المنتجع للتجول في مدينة الألف قبة، مررنا على مبنى المحكمة وقد كتب على جدرانه "قصر العدالة"، ثم مجمع المدارس الذي كان الشباب يقفون أمامه بعيداً عن البنات مكرسين طابع المدينة المحافظ. وفي طريقنا مررنا بساحة الشهداء، وهي تخلد كفاح أهل الواد وتضحياتهم أثناء ثورة التحرير، إذ كانت منطقة عبور للسلاح ورجال المقاومة نحو الأوراس.

توقفت بنا السيارات عند فندق "سوف" القديم، صعدنا إلى سطح الفندق عبر سلم دائري ضيق، وأتاح لنا السطح رؤية المدينة من علٍ فظهرت القباب متراصة ومتناثرة على مرمى البصر.

لقد عمد الإنسان السوفي القديم إلى استخدام تقنية القباب في بناء الأسقف لتكسير أشعة الشمس، بحيث إذا ضربت الشمس فوق السقف تسطع على جهة من السقف دون الجهة الأخرى، كما يحدث للكرة الأرضية عندما تشرق الشمس في نصفها فتولد نهاراً، فيما يغرق النصف الآخر منها في الليل، فتعمل تلك التقنية على تقليل درجة الحرارة داخل غرف المنزل. كما أن القباب تمنع تراكم الرمال فوق الأسطح خلال فصل الربيع وما يصاحبه من عواصف رملية.

في المساء التأم شملنا في خيمة بدوية في قلب الصحراء، حيث كانت الراقصة تدق الأرض بقدميها فتثير أشجان الصحراء، تدور حول النّار ورائحة شواء شهي تفوح في الأرجاء فتفتح القلوب، والساحرة تهتز بخصرها وكتفيها وردفيها وكأنها تتفنن في طهو مشاعري، فتجنح نحوي مقتربة وكأنها تهم باختطافي إلى عالمها السحري، وما تكاد أن تلامسني حتى تطفر مبتعدة، ثم تقترب ثانية، تدق بكعبيها على وقع دقات قلبي، وتلفح وجهي بحرارة أنفاسها، وشذرات النار المتطايرة من الحطب المشتعل تلفح وجهي لتمتزج بالشرر المتطاير من أعماقي، وألسنة اللهب تتراقص متناغمة مع تمايل الساحرة الشريرة، وهي تحرك النارين، وأنا بينهما أتلظى حالما أن تمتد تلك اللحظات إلى الأبد.

وكان اثنان من العازفين يقفان على مسافة ليست ببعيدة وليست بقريبة من "كنزة"، ويرتدي كل منهما جلباباً أبيضاً واسعاً، ويرتفع الجلباب من الأمام لارتطامه باستدارة البطن كاشفاً عن الساقين، وعلى  رأس كل منهما عمامة يتدلى طرفها على الكتف، وينتعل كل منهما حذاء مصنوعاً من جلد البقر، يحمل أحدهما دف ينقر عليه بقطعة معدنية تشبه رأس المنجل، ويحمل الآخر مزماراً ينفخ فيه؛ ويبث موسيقى كموسيقى "أوفيورس" كانت من العذوبة بحيث تبعته الحيوانات والأشجار والأحجار وتوقفت الأنهار عن الجريان كي تستمع إليه. كانت قامتاهما طويلتين وبنيتهما متينة لتقوى على تحمُّل المناخ الحار؛ بشرتهما سمراء، وفتحات أنفيهما واسعة، وتلك هي ملامح أبناء الصحراء الأشداء.

كانت "كنزة"، وعلى وقع صوت الدرداب الصادر من الدف وأنغام المزمار الخشبي،  تدق بكعبها على رمال الصحراء فتوقظها من سباتها، وبالآخر على قلبي فتوشك أن تهشمه، يا إلهي! إنها الساحرة "كيركي" ذاتها، ابنة إله الشمس التي حولت رفاق "ديونيسوس" إلى خنازير. من أعادها إلى عالمنا؟ ولكن: ليس لنا أن نتساءل كيف لكنوز السماء أن تجد طريقها إلى وادي سوف! من سمح لـ"بروميثيوس" بسرقة النار وإعطائها للبشر؟ ألم نكن في حال أفضل بلا نار؟.

وما إن أنهت رقصتها السالومية حتى امتطت الجمل وسار بها متمايلاً في حركة دائرية أمام الخيمة التي نجلس فيها مستندين إلى أرائك مصنوعة من صوف الماعز؛ وما بين ميلان الجمل في خطواته مالت "كنزة" وتخطرت رافعة ذراعيها تارة، وميممة وجهها نحو السماء تارة أخرى، وكأنها في صلاة لا يعلمها إلا العارفون.. وأنا و"أجاممنون" في انتظار الرضى الإلهي لتقلع السفن؛ "أجاممنون" ضحى بابنته "إيفيجينيا" لتبحر السفن إلى طروادة. وأنا ماذا أقدم؟ وبمن أضحي لتقلع سفني؟.. أُقدمُ ما لا أملك لرياحٍ لن تأتي، ولسفنٍ لم يمسسها ماء، درجت على التيه في الضباب، واعتدت الإبحار في الأوهام لعلها تصل إلى مرفأ. تبدو وألسنة اللهب رافعة ذراعيها لاحتضاني، فمازجت روحي روحها، فمن يرد لي فؤادي ويستجمع أشلائي، قولوا لمن يبكي على وطنٍ ضائعٍ: هاهنا قد وجدنا وطناً، ووجد الجسد له روحاً، تحت سماء تتلألأ فيها الغزلان بقفزاتها. مدت ذراعيها وباعد السنم ما بين رجليها، فأصبحتُ بصيراً بصاد الصحراء وعالماً بعين المعرفة، تتمايل على الرمال كتمايل الياء في ليالي الصحراء، وأنا معلقٌ مابين تاء التأنيث ونون النسوة.

كــ"سيزيف" يرفع الصخرة إلى أعلى الجبل، وما إن يصل ليلتقط أنفاسه حتى تتدحرج إلى الأسفل، فيعيد الكَرّةَ إلى مالا نهاية. وأنا، كلما هممت باحتضانها تتلاشى، وألسنة اللهب تناديني، تجتذبني إليها شذراتها المتطايرة، تأسرني فرقعة الحطب وتدفعني لإلقاء نفسي وسط اللهيب، وهو أحنُّ عليّ من لهيب قلب سكنه الحزن.

برك الجمل بإشارة خفيفة من "كنزة" وتدفق جسدها للأمام، وقبل انسكابه اعتدل الجمل فأعادت لملمة جسدها إلى الخلف. برك الجمل بعد أن حلق في السماء فرحًا بمن تمتطيه، وبخفة الريش انزلقت من على ظهره وجلست أمامنا منتصبة غير متكئة؛ كأنها رمح من لهب أو وتدٌ من الأنوثة، جاهزان للانقضاض على قلوب العاشقين. وهبت رياح لطيفة كانت كافية لطمس آثار قدميها في رمال الصحراء؛ وكأنها السراب تراه ولا تقبضه؛ يزيدك عطشاً على عطش.

بدت في جلستها غير مكترثة بمن حولها، ولم تبالِ بما ولدته من أشباح وهواجس تحوم في المكان وتدق في رؤوس الجالسين المتكئين على الحسرة؛ وهم يحبسون في صدورهم آهات عمر مضى، وغيوم تتبدد في صحراء الحياة وتموج فيها كثبان الرمال كأمواج البحر، لا نهاية لها؛ وأنا أحاول الاختباء بعمري ما بين الأمواج بعد أن أصيب رأسي بصدوع يصعب رأبها.

جلسَت كنزة بخشوع على ركبتيها وافترشت رمال الصحراء، وقد ثنت رجليها تحت ردفيها، ووضعت كلتا يديها على ركبتيها، وكأنها تستعد لصلاة وثنية، وبدت شديدة الإيمان في أداء طقوسها؛ فحركت رأسها بشكل نصف دائري ومستمر، وأخذت تهز رأسها بانتظام مرة إلى اليمين، تليها مرة أخرى إلى اليسار، ثم مرة إلى الخلف تليها إلى الأمام، والشعر يغطي وجهها حينا ويكشفه حينا آخر، والريح تنثر شذرات النار مع دقات الدفوف، ويتطاير شعرها الكستنائي في كل الاتجاهات، ويعود بإيماءة منها إلى رأسها، فتهدأ الرياح إلا قليلا؛ لكنها كانت كافية لتراقص النار فتشكل الخيالات والأشباح وتلقي بظلالها على رمال الصحراء تحت سماء تسبح فيها النجوم باحثة عن شواطئ لا وجود لها.

تسمى هذه الرقصة التي أدتها "كنزة" بالنخ، والراقصات بالنخاخات، وهي الطريقة المتبعة لاختيار الزوجات في وادي سوف فيتم اختيار الفتاة عن طريق رقصة النخ، وفيها تصطف مجموعة من الفتيات وهن جالسات على ركبهن متزينات بالحلى، ويبدأن بتحريك رؤوسهن إلى الخلف وإلى الأمام متبعات إيقاع الرداسي وأهازيج الرجال الذين يصطفون في الجهة المقابلة للفتيات مرددين الأغاني الشعبية، وسط زغاريد النسوة في مشهد تصبح فيه شعور النساء كسنابل القمح تدفعها الرياح لتموج في كل الجهات؛ وفي الوقت المناسب يقفز الشباب إلى وسط الحلقة، ويرش كل شاب بعض العطر على الفتاة التي يرغب بالزواج منها أو يرمي إليها بمنديل، وإن لم ترده عليه كان ذلك إشارة منها بالقبول، لكي يتقدم إلى أهلها لخطبتها، ألم يقل ربك: من شر النفاثات في العقد، وهنا عليك التعوذ من شر النخاخات على الملأ.

اشتد الهواء البارد، وأنذر الجو برياح لا قبل لنا بها فانفضضنا من الخيمة بعد أن فارقتنا كنزة، وهرعنا إلى الغرف، قضينا الليلة فيها. وفي الصباح شهدنا روعة الشروق من خلف الكثبان الرملية، وعلى حافة سفوف الرمال الذهبية ودعنا وادي سوف وأهلها، وليلة لا يطويها النسيان.

                                                         محمود يوسف خضر

                                                 كاتب فلسطيني مقيم في أبوظبي