11 Oct
11Oct

تركت الزخارف النباتية ابتداء من العصرين الأموي والعباسي بصمة متميزة على الفنون في حوض البحرالأبيض المتوسط. وقد حظيت العمارة بنصيب وافر من الجهد الذي بذل في هذا الميدان الزخرفي الذي أطلق عليه مصطلح أرابسك.


وعند دراسة أي منشأة إسلامية سواء كانت مسجداً أو قصراً أو مدرسة أو قبة أو سبيلاً أو رباطاً نجد أنفسنا أمام عرض رائع للأشكال النباتية ، وأيضا الهندسية ، والكتابية ، وقد حدث بينها تناغم جميل سواء كانت على الحجر أو الجص أو الخشب أو الخزف ، ويتجلى ذلك على الآثار الإسلامية في الأندلس التي جعلت من هذا البلد ملمحا من الجمال الزخرفي الخلاب . واتسمت العناصرالزخرفية بوفرتها وكثرتها لدرجة يمكن معها القول بأن العمارة – وهي أم الفنون – أتخذت وسيلة لتبلغ الزخارف شأناً غير مسبوق في طريق التطور مما جعل الفن الإسلامي يتميز بتنوع الأشكال والوحدات الزخرفية النباتية . ولقد أبدع الفنان المسلم في فن الزخارف لابتعاده عن الفنون التي تحاكي الطبيعة كالتصوير والنحت واتجاهه إلى المطلق والمجرد ، فالإنسان المسلم ضعيف أمام الخالق يحتاج إلى النجاة ، فوظف الفن الإسلامي لإظهار غير المرئي والبُعد عن المرئي ، لذلك اتجه إلى التجريد والرمز وإعتمد على التماثل والتناظر وتعدد المساحات والتكرار بما يخدم الإنسجام والدقة . وبتأمل هذه الزخارف نكتشف وجود تأثير الوحدات الزخرفية الكلاسيكية والبيزنطية والساسانية وقد تم تحريرها أو تعديلها وإعادة الحياة إليها ، وقد تم ذلك عبر القنوات الفنية والتاريخية الإسلامية في الأندلس وهي الأموية وفن ملوك الطوائف ، والمرابطين ، والموحدين في مراحل تلاقي فيها كل ما هو قادم من روما وبيزنطة وماهو أموي والتي كان لها دورها الأكبر في صياغة الفن الإسلامي في الأندلـــــــــس ، ونلاحظ التأثير الكلاســـــــــــيكي بشكل أكثر وضوحاً في الزخارف النباتية الأندلســـــــية وتطور الفرع النباتي هو الذي يطرأ عليــــــه تعـديل واضح وقد حدث ذلك على المدى الطويل ، فالوحدات الزخرفية النباتية بما في ذلك الثمار لاتفقد جذورها التاريخية رغم دخول ملامح الحياة عليها من خلال الزخرفة الدقيقة التي تملأ الفراغات .

لقد كان الثراء الزخرفي هو القاعدة الأساسية خلال عصر الخلافة القرطبية ، وعصر ملوك الطوائف حين تراكمت وامتزجت الأشكال الرومانية والبيزنطية والساسانية والأموية الشرقية . وقد انتقل هذا الثراء عبر مدينة الزهراء والمسجد الجامع في قرطبة خلال خلافة كل من عبد الرحمن الناصر والحكم الثاني حين استقرت الأشكال الزخرفية الموروثة وبصفة خاصة في الزخارف الجصية على الحوائط حيث أنّ الزخارف النباتية أكثر قابلية للتنويعات والأنماط الجديدة ، إلا أن هذه ا لتنويعات لم تظهر على زخارف الخشب حيث اتسمت بالكلاسيكية في قرطبة وطليطلة من القرن الثاني عشر حتى القرن الخامس عشر إذ ظلت الزخارف النباتية على أشكالها الموروثة من القرن العاشر والحادي عشر واعتمدت الزخارف على جمال التكرار دون أن يرتبط ذلك بالرتابة المملة وهي توحي بإيقاع مستمر لانهائي في انسجام و اتساق يدعو إلى التأمل والتفكير.



نموذج من الزخارف

وتمثل الزخارف النباتية على واجهة باب سان ستيبان في المسجد الجامع بقرطبة الطبيعة المركّبة للزخارف خلال القرنين الثامن والتاسع حيث طغت الترميمات والتوسعات التي قام بها كلٌ من عبد الرحمن الناصر ( الثالث ) والحكم الثاني والمنصور بن أبي عامر خلال القرنين العاشر والحادي عشر، حيث نتج عن ذلك تنوع شديد في الأشكال الزخرفية النباتية والتوريقات ذات التقنيات المختلفة . وأثبتت الدراسات المتوالية على واجهة هذا الباب تأثيرات ساسانية وهيللينستية تفوق التأثيرات البيزنطية .

لقد حدث في هذه الفترة عملية جمع بين الفنون الشرقية عبر الأمويين الذين وفدوا إلـــــى إسبانيا في تاريخ مُبكر من الفتح الإسلامي – والفن الغربي القوطي والبيزنطي والروماني وكان التأثير الأبرز من الجانب الغربي من البحر المتوسط هو زخرفة عقد حدوة الفرس والتشبيكات المفرغة ذات الأشكال الزخرفية الهندسية وكذلك نبات الأكانتوس ( شوكة اليهود ) والزخارف النباتية المرتبطة به . ومن ناحية أخرى فإن إستمرار الزخرفة التصويرية الموجودة على الفنون الحرفية مثل العاج والتي ترجع إلى الفترة من القرن التاسع إلى العاشر تفيدنا أنه كان في هذه الفترة فنٌ له قيمة خلال عصر الإمارة في قرطبة ، فنجد أنّ الأشكال الزخرفية النباتية لها مذاق الفن الأموي أكثر من الفن البيزنطي ، كما أن الصلات التي كانت قائمة بين ماهو أموي وماهو بيزنطي اللذين يُعتبران المنهل الرئيسي للفن الأندلسي القرطبي ، أدت إلى استمراريته وانسجامه خلال القرون الثامن والتاسع والعاشر ، وهذا لايمنع الوجود المكثف لعناصر الفن الكلاسيكي حتى عصر الخلافة القرطبية .

وكان للمستعربين الأسبان دور كبير في ذلك وكان لهم الفضل في إحياء الفن الروماني والقوطي على أرض الأندلس في إطار إسلامي وملامح عربية ، وهكذا اجتمعت الزخارف النباتية القوطية الرومانية والإسلامية لتشكلا بساطاً مركباً استمر حتى عصر المدجنين.



تاج عمود مغطى بزخارف نباتية

ولم تتمكن بعض الوحدات الزخرفية النباتية التي تنتمي إلى الفن الكلاسيكي القديم أو الفن البيزنطي من البقاء أو الصمود بعد عصر الخلافة القرطبية ، إلا أنها تظهر أحياناً كوحدات زخرفية على الخزف أو الأخشاب التي ترجع إلى الفن المدجن في طليطلة – عاصمة المدجنين – خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر . ولقد ازدهرت الزخارف النباتية ذات الأطراف النصلية ( المدببة ) وهي وحدات زخرفية نباتية ترجع إلى أصول رومانية وكانت شائعة الاستخدام في فنون العصر العباسي وفنون عصر الخلافة القرطبية . وهي عبارة عن نبات له ثلاث أوراق أو أكثر ، ونراها بكثرة على التيجان القديمة ثم انتقلت عن طريق الفن الساساني إلى الزخارف الجصّية والأخشاب في سامراء وفي جامع أحمد بن طولون في القاهرة . ولقد أبدع الفنان المسلم في زخارف الثمار وتظهر بعض العناصر الزخرفية النباتية بشكلها الطبيعي وهي على سبيل المثال ثمار الأناناس والرُمان والفلفل والخرشوف . أما في الفن القوطي المدجن فيظهر التين وبراعم القرنفل ، ومن الطبيعي أن تتأثر بعض هذه العناصر الزخرفية بالأخرى ، ويؤدي ذلك إلى ظهور زخارف لثمار مدجنة كما حدث في زخارف مدينة الزهراء بالقرب من قرطبة وفيها نجد أيضا عناصر الأناناس والفلفل والرمان ، وكلها ترتبط في كثير من الأحيان بأوراق العنب والتين . وبالنسبة للجذور الأولى لزخرفة الثمار فإنها في أغلب الأحوال ترجع إلى فنون بيزنطة والفن الأموي في المشرق وربما الفن القوطي . ومن أشهر الوحدات الزخرفية زهرة اللوتس و هذه التسمية التي أطلقت على هذا النوع من الزخارف النباتية تسمية اصطلاحية ، وهي مقبولة لدى الباحثين نظراً للشبه الذي احتفظت به طوال تاريخ تطورها ، أي حتى القرن الحادي عشر على الأقل مع الوريقات الثلاث أو أطراف ورقة زهرة اللوتس الفرعونية . و هذا العنصر الزخرفي يعتبر أكثر العناصر الزخرفية النباتية انتشاراً واستخداماً في فنون الأندلس ، وترجع أصوله إلى مصر القديمة وإلى الفن الأخميني ، والساساني ، والبيزنطي ، ومسجد القيروان . وهذه الزخرفة يمكن العثور عليها في أي مكان في حوض البحر المتوسط سواء الشرقي أو الغربي ، وقد كان لهذا العنصر النباتي تطور خاص في الأندلس وحظي بكل الرعاية .

ويتميز كل نوع من هذا العنصر الزخرفي بأنه خرج من بين صانع ماهر ، وخاصة تلك الأنواع التي عثرعليها في مدينة الزهراء ، وفي المسجد الجامع في قرطبة ، ثم انتقلت بعد ذلك إلى عصر ملوك الطوائف ، ثم تحالفت هذه الوحدة الزخرفية مع وحدات زخرفية نباتية أخرى من طبيعة مختلفة ويمكننا أن نتعرف بسهولة على زهرة اللوتس ذات الورقتين والمتحدة بسعفة ذات ورقة واحدة وبالتالي تشكل وحدة زخرفية طرفية طولية. من الصعب أن نقوم بتحديد ملامح الفن الأندلسي في عصري الإمارة والخلافة إذا ماتجاهلنا العنصر الزخرفي الكلاسيكي وهو ورقة الأكانتوس الذي عاصر تطورات واسعة من القرن التاسع وحتى القرن الحادي عشر ، والسبب في استمرار هذا العنصر كوحدة زخرفية حتى القرن الخامس عشر في الأندلس يرجع إلى أنه انتقل من مدينة الزهراء ليصبح وحدة زخرفية في الأشرطة الزخرفية الضيقة ومن خلاله يصل هذا العنصر الزخرفي إلى فن بني نصر والفن المدجن ولكن ظهوره كان بشكل أقل . ولدينا المئات من تيجان الأعمدة التي ترجع إلى القرنين التاسع والعاشر وقد زخرفت بورقة الأكانتوس وهو تقليد فني نقله الفنان المسلم في الأندلس عن تيجان الأعمدة الرومانية .

ولكن قدرة هذا العنصر على التأقلم على كافة أنواع المسطحات يثير الدهشة إذ أنه استخدم في زخرفة العقود والشُرافات المسننة وصنجات العقود . وبعد ازدهار هذا العنصر في زخارف عصر المرابطين أخذ دوره يتضاءل شيئاً فشيئاً في الزخارف المعمارية .وفن الآرابسك يمثل التجريد في الفن الإسلامي وهو انعكاس للفلسفة الدينية السائدة التي تُبعد المؤمن عن الطبيعة ومحاكاتها ، ولقد نجح هذا الفن في إضفاء الجمال على الأشكال الزخرفية المتناسقة والمتداخلة بعضها في بعض والتي تأخذ بذهن المشاهد إلى التأمل والسمو وكما يقول بيكاسو ” إننا نعرف جميعاً أن الفن ليس هو الحقيقة وإنما هو كذبة تجعلنا ندرك الحقيقة أو على الأقل تلك الحقيقة التي كُتب علينا أن نفهمها ” .